فصل: تفسير الآية رقم (32)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا‏}‏‏.‏

يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ حَكَمَ رَبُّكَ يَا مُحَمَّدُ بِأَمْرِهِ إِيَّاكُمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْبَدَ غَيْرُهُ، وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ‏}‏ وَإِنْ كَانَ مَعْنًى جَمِيعِهِمْ فِي ذَلِكَ وَاحِدًا‏.‏

ذِكْرُ مَا قَالُوا فِي ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ أَمَرَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُكَمُ بْنُ بَشِيرٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ سَلَامٍ، قَالَ‏:‏ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْحَسَنِ، فَقَالَ‏:‏ إِنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فَقَالَ‏:‏ إِنَّكَ عَصَيْتَ رَبَّكَ، وَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُكَ، فَقَالَ الرَّجُلُ‏:‏ قَضَى اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيَّ، قَالَ الْحَسَنُ، وَكَانَ فَصِيحًا‏:‏ مَا قَضَى اللَّهُ‏:‏ أَيْ مَا أَمَرَ اللَّهُ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ‏}‏ فَقَالَ النَّاسُ‏:‏ تَكَلَّمَ الْحَسَنُ فِي الْقَدْرِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ‏}‏‏:‏ أَيْ أَمَرَ رَبُّكَ فِي أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، فَهَذَا قَضَاءُ اللَّهِ الْعَاجِلُ، وَكَانَ يُقَالُ فِي بَعْضِ الْحِكْمَةِ‏:‏ مَنْ أَرْضَى وَالِدَيْهِ‏:‏ أَرْضى خَالِقَهُ، وَمَنْ أَسْخَطَ وَالِدَيْهِ، فَقَدْ أَسْخَطَ رَبَّهُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ‏}‏ قَالَ‏:‏ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، وَفِي حِرَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ‏:‏ ‏(‏وَصَّى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ‏)‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَحْيَى بْنُ عِيسَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا نُصَيْرُ بْنُ أَبِي الْأَشْعَثِ، قَالَ‏:‏ ثَنِي ابْنُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ‏:‏ أَعْطَانِي ابْنُ عَبَّاسٍ مُصْحَفًا، فَقَالَ‏:‏ هَذَا عَلَى قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ أَبُو كَرَيْبٍ‏:‏ قَالَ يَحْيَى‏:‏ رَأَيْتُ الْمُصْحَفَ عِنْدَ نُصَيْرٍ فِيهِ‏:‏ ‏(‏وَوَصَّى رَبُّكَ‏)‏ يَعْنِي‏:‏ وَقَضَى رَبُّكَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ‏}‏ قَالَ‏:‏ وَأَوْصَى رَبُّكَ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ‏}‏ قَالَ‏:‏ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْحَرْثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْكُوفِيِّ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، أَنَّهُ قَرَأَهَا ‏(‏وَوَصَّى رَبُّكَ‏)‏ وَقَالَ‏:‏ إِنَّهُمْ أَلْصَقُوا الْوَاو بِالصَّادِّ فَصَارَتْ قَافًا‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَأَمَرَكُمْ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِمَا وَتَبِرُّوهُمَا‏.‏ وَمَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ وَأَمَرَكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَى الْوَالِدَيْنِ، فَلَمَّا حُذِفَتْ “ أَنْ “ تَعَلُّقَ الْقَضَاءُ بِالْإِحْسَانِ، كَمَا يُقَالُ فِي الْكَلَامِ‏:‏ آمُرُكَ بِهِ خَيِّرًا، وَأُوصِيكَ بِهِ خَيْرًا، بِمَعْنَى‏:‏ آمُرُكَ أَنْ تَفْعَلَ بِهِ خَيْرًا، ثُمَّ تُحْذَفُ “ أَنْ “ فَيَتَعَلَّقُ الْأَمْرُ وَالْوَصِيَّةُ بِالْخَبَرِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

عَجِبْتُ مِنْ دَهْماءَ إِذْ تَشْكُونَا *** وَمِنْ أَبِي دَهْمَاءَ إِذْ يُوصِينَا

خَيْرًا بِهَا كَأَنَّنَا جَافُونَا ***

وَعَمَلٌ يُوصِينَا فِي الْخَيْرِ‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ ‏{‏إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا‏}‏ فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهَّلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَبَعْضُ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ ‏{‏إِمَّا يَبْلُغَنَّ‏}‏ عَلَى التَّوْحِيدِ عَلَى تَوْجِيهٍ ذَلِكَ إِلَى أَحَدِهِمَا لِأَنَّ أَحَدَهُمَا وَاحِدٌ، فَوَحَّدُوا ‏(‏يَبْلُغَنَّ‏)‏ لِتَوْحِيدِهِ، وَجَعَلُوا قَوْلَهُ ‏(‏أَوْ كِلَاهُمَا‏)‏ مَعْطُوفًا عَلَى الْأَحَدِ‏.‏ وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ ‏(‏إِمَّا يَبْلُغَانِ‏)‏ عَلَى التَّثْنِيَةِ وَكَسْرِ النُّونِ وَتَشْدِيدِهَا، وَقَالُوا‏:‏ قَدْ ذَكَرَ الْوَالِدَانِ قَبْلُ، وَقَوْلُهُ ‏(‏يَبْلُغَانِ‏)‏ خَبَرٌ عَنْهُمَا بَعْدَ مَا قَدَّمَ أَسْمَاءَهُمَا، قَالُوا‏:‏ وَالْفِعْلُ إِذَا جَاءَ بَعْدَ الِاسْمِ كَانَ الْكَلَامُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَّرٌ عَنِ اثْنَيْنِ أَوْ جَمَاعَةٍ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ عَنِ اثْنَيْنِ فِي الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبِلِ الْأَلِفُ وَالنُّونُ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَقَوْلُهُ ‏{‏أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا‏}‏ كَلَامٌ مُسْتَأْنِفٌ، كَمَا قِيلَ ‏{‏فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ‏}‏ وَكَقَوْلِهِ ‏{‏وَأَسَرُّوا النَّجْوَى‏}‏ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ ‏{‏الَّذِينَ ظَلَمُوا‏}‏‏.‏

وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ عِنْدِي فِي ذَلِكَ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ ‏{‏إِمَّا يَبْلُغَنَّ‏}‏ عَلَى التَّوْحِيدِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ أَحَدِهِمَا، لِأَنَّ الْخَبَرَ عَنِ الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ فِي الْوَالِدَيْنِ، قَدْ تَنَاهَى عِنْدَ قَوْلِهِ ‏{‏وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا‏}‏ ثُمَّ ابْتَدَأَ قَوْلَهُ ‏{‏إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا‏}‏‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَلَا تُؤَفِّفُ مِنْ شَيْءٍ تَرَاهُ مِنْ أَحَدِهِمَا أَوْ مِنْهُمَا مِمَّا يَتَأَذَّى بِهِ النَّاسُ، وَلَكِنِ اصْبِرْ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُمَا، وَاحْتَسِبْ فِي الْأَجْرِ صَبْرَكَ عَلَيْهِ مِنْهُمَا، كَمَا صَبَرَا عَلَيْكَ فِي صِغَرِكَ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَبَّبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا‏}‏ قَالَ‏:‏ إِنْ بَلَغَا عِنْدَكَ مِنَ الْكِبَرِ مَا يَبُولَانِ وَيَخْرَآنِ، فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ تُقَذِّرُهُمَا‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ إِمَّا يَبْلُغَانِ عِنْدَكَ الْكِبَرَ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ حِينَ تَرَى الْأَذَى، وَتُمِيطُ عَنْهُمَا الْخَلَاءَ وَالْبَوْلَ، كَمَا كَانَا يُمِيطَانِهِ عَنْكَ صَغِيرًا، وَلَا تُؤْذِهِمَا‏.‏

وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ فِي مَعْنَى “ أُفٍّ “، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏

كُلُّ مَا غَلِظَ مِنَ الْكَلَامِ وَقَبُحَ‏.‏ وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ الْأُفُّ‏:‏ وَسَخُ الْأَظْفَارِ وَالْتَفُّ، كُلُّ مَا رَفَعْتَ يَدُكَ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ حَقِيرٍ، وَلِلْعَرَبِ فِي “ أُفٍّ “ لُغَاتٌ سِتٌّ رَفْعُهَا بِالتَّنْوِينِ وَغَيْرِ التَّنْوِينِ وَخَفْضُهَا كَذَلِكَ وَنَصْبُهَا، فَمَنْ خَفَضَ ذَلِكَ بِالتَّنْوِينِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَامَّةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، شُبَّهَهَا بِالْأَصْوَاتِ الَّتِي لَا مَعْنَى لَهَا، كَقَوْلِهِمْ فِي حِكَايَةِ الصَّوْتِ غَاقٍ غَاقٍ، فَخَفَّضُوا الْقَافَ وَنَوَّنُوهَا، وَكَانَ حُكْمُهَا السُّكُونَ، فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ يُعْرِبُهَا مِنْ أَجْلِ مَجِيئِهَا بَعْدَ حَرْفٍ سَاكِنٍ وَهُوَ الْأَلْفُ، فَكَرِهُوا أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ سَاكِنِينَ، فَحَرَّكُوا إِلَى أَقْرَبِ الْحَرَكَاتِ مِنَ السُّكُونِ، وَذَلِكَ الْكَسْرِ، لِأَنَّ الْمَجْزُومَ إِذَا حُرِّكَ، فَإِنَّمَا يُحَرَّكُ إِلَى الْكَسْرِ، وَأَمَّا الَّذِينَ خَفَّضُوا بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَامَّةِ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا‏:‏

إِنَّمَا يُدْخِلُونَ التَّنْوِينَ فِيمَا جَاءَ مِنَ الْأَصْوَاتِ نَاقِصًا، كَالَّذِي يَأْتِي عَلَى حَرْفَيْنِ مِثْلُ‏:‏ مَهٍ وَصَهٍ وَبَخٍ، فَيُتَمِّمُ بِالتَّنْوِينِ لِنُقْصَانِهِ عَنْ أَبْنِيهِ الْأَسْمَاءِ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَأُفٍّ تَامٌّ لَا حَاجَةَ بِهَا إِلَى تَتَمَتِّهِ بِغَيْرِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَإِنَّمَا كَسَرْنَا الْفَاءَ الثَّانِيَةَ لِئَلَّا نَجْمَعُ بَيْنَ سَاكِنِينَ‏.‏ وَأَمَّا مَنْ ضَمَّ وَنَوَّنَ، فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ هُوَ اسْمٌ كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي تُعَرَّفُ وَلَيْسَ بِصَوْتٍ، وَعَدَلَ بِهِ عَنِ الْأَصْوَاتِ، وَأَمَّا مَنْ ضَمَّ ذَلِكَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ لَيْسَ هُوَ باسَمٍ مُتَمَكِّنٍ فَيُعْرِبُ بِإِعْرَابِ الْأَسْمَاءِ الْمُتَمَكِّنَةِ، وَقَالُوا‏:‏ نَضُمُّهُ كَمَا نَضُمُّ قَوْلَهُ ‏{‏لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ‏}‏، وَكَمَا نَضُمُّ الِاسْمَ فِي النِّدَاءِ الْمُفْرَدِ، فَنَقُولُ‏:‏ يَا زَيْدُ‏.‏ وَمَنْ نُصِبْهُ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وَهُوَ قِرَاءَةُ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ وَأَهْلِ الشَّامِ فَإِنَّهُ شَبَّهَهُ بِقَوْلِهِمْ‏:‏ مُدَّ يَا هَذَا وَرُدَّ‏.‏ وَمَنْ نَصَبَ بِالتَّنْوِينِ، فَإِنَّهُ أَعْمَلَ الْفِعْلَ فِيهِ، وَجَعَلَهُ اسْمًا صَحِيحًا، فَيَقُولُ‏:‏ مَا قُلْتُ لَهُ‏:‏ أُفًّا وَلَا تُفًّا‏.‏ وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ يَقُولُ‏:‏ قُرِئَتْ‏:‏ أُفَّ، “ وَأُفًّا “ لُغَةٌ جَعَلُوهَا مِثْلَ نَعْتِهَا‏.‏ وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ “ أُفٌّ “، وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ يَقُولُ‏:‏ “ أُفٌّ لَكَ “ عَلَى الْحِكَايَةِ‏:‏ أَيْ لَا تَقُلْ لَهُمَا هَذَا الْقَوْلَ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَالرَّفْعُ قَبِيحٌ، لِأَنَّهُ لِمَ يَجِيءْ بَعْدَهُ بِلَامٍ، وَالَّذِينَ قَالُوا‏:‏ “ أُفِّ “ فَكَسَرُوا كَثِيرٌ، وَهُوَ أَجْوَدُ‏.‏ وَكَسَرَ بَعْضُهُمْ وَنَوَّنَ‏.‏ وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ “ أَفِي “، كَأَنَّهُ أَضَافَ هَذَا الْقَوْلَ إِلَى نَفْسِهِ، فَقَالَ‏:‏ أَفِي هَذَا لَكُمَا، وَالْمَكْسُورُ مِنْ هَذَا مُنَوَّنٌ وَغَيْرُ مُنَوَّنٍ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ، نَحْوَ أَمْسٍ وَمَا أَشْبَهَهُ، وَالْمَفْتُوحُ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ كَذَلِكَ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ‏:‏ كُلُّ هَذِهِ الْحَرَكَاتِ السِّتِّ تَدْخُلُ فِي “ أُفٍّ “ حِكَايَةَ تَشَبُّهٍ بِالِاسْمِ مَرَّةً وَبِالصَّوْتِ أُخْرَى‏.‏ قَالَ‏:‏ وَأَكْثَرُ مَا تُكْسَرُ الْأَصْوَاتُ بِالتَّنْوِينِ إِذَا كَانَتْ عَلَى حَرْفَيْنِ مِثْلَ صَهٍ وَمَهٍ وَبِّخٍ، وَإِذَا كَانَتْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ شُبِّهَتْ بِالْأَدَوَاتِ “ أُفَّ “ مِثْلُ‏:‏ لَيْتَ وَمَدَّ، وَأُفٌّ مَثَّلُ مَدَّ يُشَبَّهُ بِالْأَدَوَاتِ‏.‏ وَإِذَا قَالَ أَفَّ مِثْلُ صَهَّ‏.‏ وَقَالُوا هعَتْ مِضِّ يَا هَذَا ومِضُّ‏.‏ وَحُكِيَ عَنِ الْكِسَائِي أَنَّهُ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ “ مَا عَلَّمَكَ أَهْلُكَ إِلَّا مِضٍّ ومِضُّ “، وَهَذَا كإِفٍّ وَأُفٍّ‏.‏ وَمَنْ قَالَ‏:‏ “ أُفًّا “ جَعْلَهُ مُثِّلَ سُحْقًا وَبُعْدًا‏.‏

وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ عِنْدِي فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ ‏{‏فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفِّ‏}‏ بِكَسْرِ الْفَاءِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ لِعِلَّتَيْنِ‏:‏ إِحْدَاهُمَا‏:‏ أَنَّهَا أَشْهَرُ اللُّغَاتِ فِيهَا وَأَفْصَحُهَا عِنْدَ الْعَرَبِ؛ وَالثَّانِيَةُ‏:‏ أَنْ حَظَّ كَلَّ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُعَرَّبٌ مِنَ الْكَلَامِ السُّكُونُ؛ فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ‏.‏ وَكَانَتِ الْفَاءُ فِي أُفِّ حَظَهَا الْوُقُوفُ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ لِاجْتِمَاعِ السَّاكِنِينَ فِيهِ، وَكَانَ حُكْمُ السَّاكِنِ إِذَا حُرِّكَ أَنْ يُحَرَّكَ إِلَى الْكَسْرِ حُرِّكَتْ إِلَى الْكَسْرِ، كَمَا قِيلَ‏:‏ مُدِّ وشُدِّ ورُدِّ الْبَابَ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏وَلَا تَنْهَرْهُمَا‏}‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ وَلَا تَزْجُرْهُمَا‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَحْمَسَيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَاصِلُ الرَّقَاشيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا‏}‏ قَالَ‏:‏ لَا تَنْفُضْ يَدَكَ عَلَى وَالِدَيْكَ، يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ نَهَرَهُ يَنْهَرُهُ نَهْرًا، وَانْتَهَرَهُ يَنْتَهِرُهُ انْتِهَارًا‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ ‏{‏وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا‏}‏ فَإِنَّهُ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا جَمِيلًا حَسَنًا‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ‏{‏وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا‏}‏ قَالَ‏:‏ أَحْسَنَ مَا تَجِدُ مِنَ الْقَوْلِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُخْتَارٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ‏{‏قَوْلًا كَرِيمًا‏}‏ قَالَا‏:‏ لَا تَمْتَنِعْ مِنْ شَيْءٍ يُرِيدَانِهِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا الْحَدِيثُ خَطَأٌ، أَعْنِي حَدِيثَ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، إِنَّمَا هُوَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، لَيْسَ فِيهِ عُمَرُ، حَدَّثَ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ وَغَيْرِهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُخْتَارِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا‏}‏‏:‏ أَيْ قَوْلًا لَيِّنًا سَهْلًا‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ عُمْرَانَ، عَنْ أَبِي الْهَدَّاجِ التَّجِيبِيِّ، قَالَ‏:‏ قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ‏:‏ كُلُّ مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقُرْآنِ مِنْ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ، فَقَدْ عَرَفْتُهُ، إِلَّا قَوْلَهُ ‏{‏وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا‏}‏ مَا هَذَا الْقَوْلُ الْكَرِيمُ‏؟‏ فَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ‏:‏ قَوْلُ الْعَبْدِ الْمُذْنِبِ لِلسَّيِّدِ الْفَظِّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَكُنْ لَهُمَا ذَلِيلًا رَحْمَةً مِنْكَ بِهِمَا تُطِيعُهُمَا فِيمَا أَمَرَاكَ بِهِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ مَعْصِيَةٌ، وَلَا تَخَالِفْهُمَا فِيمَا أَحَبَّا‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ‏}‏ قَالَ‏:‏ لَا تَمْتَنِعُ مِنْ شَيْءٍ يُحِبَّانِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْأَشْجَعِيُّ، قَالَ‏:‏ سَمِعَتّ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ‏}‏ قَالَ‏:‏ هُوَ أَنْ تَلِينَ لَهُمَا حَتَّى لَا تَمْتَنِعَ مِنْ شَيْءٍ أَحَبَّاهُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُوِيدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ‏}‏ قَالَ‏:‏ لَا تَمْتَنِعْ مِنْ شَيْءٍ أَحَبَّاهُ‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُخْتَارِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ‏}‏ قَالَ‏:‏ هُوَ أَنْ لَا تَمْتَنِعْ مِنْ شَيْءٍ يُرِيدَانِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْمُقْرِئُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَرْمَلَةَ بْنِ عُمْرَانَ، عَنْ أَبِي الْهَدَّاجِ، قَالَ‏:‏ قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ‏:‏ مَا قَوْلُهُ ‏{‏وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ‏}‏ قَالَ‏:‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى قَوْلِ الْعَبْدِ الْمُذْنِبِ لِلسَّيِّدِ الْفَظِّ الْغَلِيظِ‏.‏ وَالذُّلُّ بِضَمِّ الذَّالِ وَالذِّلَّةُ مَصْدَرَانِ مِنَ الذَّلِيلِ، وَذَلِكَ أَنْ يَتَذَلَّلَ، وَلَيْسَ بِذَلِيلٍ فِي الْخِلْقَةِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ قَدْ ذَلَلْتُ لَكَ أُذِلُّ ذِلَّةً وَذُلًّا وَذَلِكَ نَظِيرُ الْقِلِّ وَالْقِلَّةِ، إِذَا أُسْقِطَتِ الْهَاءُ ضُمَّتِ الذَّالُ مِنَ الذُّلِّ، وَالْقَافُ مِنَ الْقُلِّ، وَإِذَا أُثْبِتَتِ الْهَاءُ كُسِرَتِ الذَّالُ مِنَ الذِّلَّةِ، وَالْقَافُ مِنَ الْقِلَّةِ، لِمَا قَالَ الْأَعْشَى‏:‏

وَمَا كُنْتُ قُلًّا قَبْلَ ذَلِكَ أزْيَبَا

يُرِيدُ‏:‏ الْقِلَّةُ، وَأَمَّا الذِّلُّ بِكَسْرِ الذَّالِ وَإِسْقَاطِ الْهَاءِ فَإِنَّهُ مَصْدَرٌ مِنَ الذَّلُولِ مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ دَابَّةٌ ذَلُولٌ‏:‏ بَيِّنَةُ الذُّلِّ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ لَيِّنَةٌ غَيْرُ صَعْبَةٍ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا‏}‏ يُجْمَعُ ذَلِكَ ذُلُلًا كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ‏{‏فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا‏}‏‏.‏ وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَتَوَعَّرُ عَلَيْهَا مَكَانٌ سَلَكَتْهُ‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ ‏{‏وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ‏}‏ بِضَمِّ الذَّالِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِنَ الذَّلِيلِ‏.‏ وَقَرَأَ ذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَاصِمُ الْجَحْدَرِيُّ‏:‏ ‏(‏جَنَاحَ الذِّلِّ‏)‏ بِكَسْرِ الذَّالِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا بِهَزُ بْنُ أَسَدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَرَأَ ‏{‏وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ‏}‏ قَالَ‏:‏ كُنْ لَهُمَا ذَلِيلًا وَلَا تَكُنْ لَهُمَا ذَلُولًا‏.‏

حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ شَقِيقٍ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ عَاصِمًا الْجَحْدَرِيَّ يَقْرَأُ ‏(‏وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذِّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ‏)‏ قَالَ‏:‏ كُنْ لَهُمَا ذَلِيلًا وَلَا تَكُنْ لَهُمَا ذَلُولًا‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عُمَرُ بْنُ شَقِيقٍ، عَنْ عَاصِمٍ، مِثْلَهُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الَّذِي تَأَوَّلَهُ عَاصِمٌ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ قِرَاءَتَهُ بِضَمِّ الذَّالِ لَا بِكَسْرِهَا وَبِكَسْرِهَا‏.‏

حَدَّثَنَا نَصْرٌ وَابْنُ بَشَّارٍ، وَحُدِّثْتُ عَنِ الْفَرَّاءِ، قَالَ‏:‏ ثَنِي هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ‏.‏ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّهُ قَرَأَ ‏(‏وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذِّلِّ‏)‏ قَالَ الْفَرَّاءُ‏:‏ وَأَخْبَرَنِي الْحُكْمُ بْنُ ظَهِيرٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبَى النَّجُودِ، أَنَّهُ قَرَأَهَا الذِّلِّ أَيْضًا، فَسَأَلْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ‏:‏ الذِّلُّ قَرَأَهَا عَاصِمٌ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ ‏{‏وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا‏}‏ فَإِنَّهُ يَقُولُ‏:‏ ادْعُ اللَّهَ لِوَالِدَيْكَ بِالرَّحْمَةِ، وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا، وَتَعَطُّفْ عَلَيْهِمَا بِمُغْفِرَتِكَ وَرَحْمَتِكَ، كَمَا تَعَطَّفَا عَلَيَّ فِي صِغَرِي، فَرَحِمَانِي وَرَبَّيَانِي صَغِيرًا، حَتَّى اسْتَقْلَلْتُ بِنَفْسِي، وَاسْتَغْنَيْتُ عَنْهُمَا‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا‏}‏ هَكَذَا عُلِّمْتُمْ، وَبِهَذَا أُمِرْتُمْ، خُذُوا تَعْلِيمَ اللَّهِ وَأَدَبَهُ، ذُكِرَ لَنَا “ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ مَادٌّ يَدَيْهِ رَافِعٌ صَوْتَهُ يَقُولُ‏:‏ مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا ثُمَّ دَخَلَ النَّارَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ وَأَسْحَقَهُ “‏.‏ وَلَكِنْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ بَرِّ وَالِدَيْهِ، وَكَانَ فِيهِ أَدْنَى تُقًى، فَإِنَّ ذَلِكَ مُبَلِّغُهُ جَسِيمَ الْخَيْرَ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ‏:‏ إِنَّ قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ‏{‏وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا‏}‏ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ ‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ‏}‏‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ ثَنْي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ ‏{‏وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا‏}‏ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَعْدَ هَذَا ‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏{‏إِمَّا يَبْلُغَانِ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أحَدهُمُا أَوْ كِلَاهُمَا‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ إِلَى قَوْلِهِ ‏{‏وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا‏}‏ فَنَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي فِي‏:‏ بَرَاءَةٌ ‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الْآيَةَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ‏{‏وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الْآيَةَ، قَالَ‏:‏ نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي فِي‏:‏ بَرَاءَةٌ ‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الْآيَةَ‏.‏

وَقَدْ تَحْتَمِلُ هَذِهِ الْآيَةُ أَنْ تَكُونَ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا عَامًّا فِي كُلِّ الْآبَاءِ بِغَيْرِ مَعْنَى النَّسْخِ، بِأَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُهَا عَلَى الْخُصُوصِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا إِذَا كَانَا مُؤْمِنَيْنِ، كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا، فَتَكُونُ مُرَادًا بِهَا الْخُصُوصُ عَلَى مَا قُلْنَا غَيْرُ مَنْسُوخٍ مِنْهَا شَيْءٌ‏.‏ وَعَنَى بِقَوْلِهِ رَبَّيَانِي‏:‏ نَمَّيَانِي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ ‏(‏رَبُّكُمْ‏)‏ أَيُّهَا النَّاسُ ‏(‏أَعْلَمُ‏)‏ مِنْكُمْ ‏{‏بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ‏}‏ مِنْ تَعْظِيمِكُمْ أَمْرَ آبَائِكُمْ وَأُمَّهَاتِكُمْ وَتَكْرِمَتِهِمْ، وَالْبَرِّ بِهِمْ، وَمَا فِيهَا مِنِ اعْتِقَادِ الِاسْتِخْفَافِ بِحُقُوقِهِمْ، وَالْعُقُوقِ لَهُمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ضَمَائِرِ صُدُورِكُمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مُجَازِيكُمْ عَلَى حَسَنِ ذَلِكَ وَسَيِّئِهِ، فَاحْذَرُوا أَنْ تُضْمِرُوا لَهُمْ سُوءًا، وَتَعْقِدُوا لَهُمْ عُقُوقًا‏.‏ وَقَوْلُهُ ‏{‏إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ إِنْ أَنْتُمْ أَصْلَحْتُمْ نِيَّاتِكُمْ فِيهِمْ، وَأَطَعْتُمُ اللَّهَ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنَ الْبِرِّ بِهِمْ، وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهِمْ عَلَيْكُمْ، بَعْدَ هَفْوَةٍ كَانَتْ مِنْكُمْ، أَوْ زَلَّةٍ فِي وَاجِبٍ لِهَمِّ عَلَيْكُمْ مَعَ الْقِيَامِ بِمَا أَلْزَمُكُمْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فَرَائِضِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ بَعْدَ الزَّلَّةِ، وَالتَّائِبِينَ بَعْدَ الْهَفْوَةِ غَفُورًا لَهُمْ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبِي وَعَمِّي عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ‏{‏رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْبَادِرَةُ تَكُونُ مِنَ الرَّجُلِ إِلَى أَبَوَيْهِ لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ إِلَّا الْخَيْرَ، فَقَالَ ‏{‏رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو السَّائِبِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، بِمَثْلِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُكْمُ بْنُ بَشِيرٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَمْرٌو، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا‏}‏ قَالَ‏:‏ هُوَ الرَّجُلُ تَكُونُ مِنْهُ الْبَادِرَةُ إِلَى أَبَوَيْهِ وَفِي نِيَّتِهِ وَقَلْبِهِ أَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ، فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ‏{‏فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا‏}‏‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هُمُ الْمُسَبِّحُونَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو كُدَيْنَةَ؛ وَحَدَّثَنِي ابْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْأَشْقَرُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو كُدَيْنَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ‏{‏فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا‏}‏ قَالَ‏:‏ الْمُسَبِّحِينَ‏.‏

حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، قَالَ‏:‏ الْأَوَّابُ‏:‏ الْمُسَبِّحُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هُمُ الْمُطِيعُونَ الْمُحْسِنُونَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ ‏{‏فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ لِلْمُطِيعِينَ الْمُحْسِنِينَ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا‏}‏ قَالَ‏:‏ هُمُ الْمُطِيعُونَ، وَأَهْلُ الصَّلَاةِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا‏}‏ قَالَ‏:‏ لِلْمُطِيعِينَ الْمُصَلِّينَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ هُمُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي صَخْرٍ حُمَيْدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ يَرْفَعُهُ ‏{‏فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا‏}‏ قَالَ‏:‏ الصَّلَاةُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هُمُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ الضُّحَى‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا رَبَاحٌ أَبُو سُلَيْمَانَ الرَّقَّاءُ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ عَوْنًا الْعَقِيلِيُّ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ‏{‏فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا‏}‏ قَالَ‏:‏ الَّذِينَ يُصَلُّونَ صَلَاةَ الضُّحَى‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ هُوَ الرَّاجِعُ مِنْ ذَنْبِهِ، التَّائِبُ مِنْهُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْقُرَشِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ‏{‏فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا‏}‏ قَالَ‏:‏ الَّذِي يُصِيبُ الذَّنْبَ ثُمَّ يَتُوبُ ثُمَّ يُصِيبُ الذَّنْبَ ثُمَّ يَتُوبُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ‏:‏ هُوَ الَّذِي يُذْنِبُ ثُمَّ يَتُوبُ، ثُمَّ يُذْنِبُ ثُمَّ يَتُوبُ فِي هَذَا الْآيَةِ ‏{‏فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يُسْأَلُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةَ ‏{‏فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا‏}‏ قَالَ‏:‏ هُوَ الَّذِي يُذْنِبُ ثُمَّ يَتُوبُ، ثُمَّ يُذْنِبُ ثُمَّ يَتُوبُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، بِنَحْوِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، بِنَحْوِهِ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ‏{‏فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا‏}‏ قَالَ‏:‏ هُوَ الْعَبْدُ يُذْنِبُ ثُمَّ يَتُوبُ، ثُمَّ يُذْنِبُ ثُمَّ يَتُوبُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ‏:‏ فَذَكَرَ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ وَمَعْمَرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ‏:‏ الْأَوَّابُ‏:‏ الَّذِي يُذْنِبُ ثُمَّ يَتُوبُ، ثُمَّ يُذْنِبُ ثُمَّ يَتُوبُ، ثُمَّ يُذْنِبُ ثُمَّ يَتُوبُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ‏{‏فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا‏}‏ قَالَ‏:‏ الرَّاجِعِينَ إِلَى الْخَيْرِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ وَأَبُو دَاوُدَ وَهِشَامٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، بِنَحْوِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُفْيَانُ؛ وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَمْرٍو، جَمِيعًا عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ ‏{‏فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا‏}‏ قَالَ‏:‏ الَّذِي يَذْكُرُ ذُنُوبَهُ فِي الْخَلَاءِ، فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهَا‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ‏:‏ الْأَوَّابُ‏:‏ الَّذِي يَذْكُرُ ذُنُوبَهُ فِي الْخَلَاءِ فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهَا‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ‏{‏فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا‏}‏ قَالَ‏:‏ الَّذِي يَذْكُرُ ذَنْبَهُ ثُمَّ يَتُوبُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَا ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ‏{‏لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا‏}‏ قَالَ‏:‏ الْأَوَّابُونَ‏:‏ الرَّاجِعُونَ التَّائِبُونَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ‏:‏ الرَّجُلُ يُذْنِبُ ثُمَّ يَتُوبُ ثَلَاثًا‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَوْلَهُ ‏{‏فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا‏}‏ قَالَ‏:‏ الَّذِي يَتَذَكَّرُ ذُنُوبَهُ، فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لَهَا‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي ابْنُ شُرَيْحٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ ‏{‏فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا‏}‏ يُذْنِبُ الْعَبْدُ ثُمَّ يَتُوبُ، فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُذْنِبُ فَيَتُوبُ، فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ؛ ثُمَّ يُذْنِبُ الثَّالِثَةَ، فَإِنْ تَابَ، تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ تَوْبَةً لَا تُمْحَى‏.‏

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، غَيْرُ الْقَوْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنْ مُجَاهِدٍ، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا‏}‏ قَالَ‏:‏ كُنَّا نَعُدُّ الْأَوَّابَ‏:‏ الْحَفِيظَ، أَنْ يَقُولَ‏:‏ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا أَصَبْتُ فِي مَجْلِسِي هَذَا‏.‏

وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ الْأَوَّابُ‏:‏ هُوَ التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ، الرَّاجِعُ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَى طَاعَتِهِ، وَمِمَّا يُكَرِّهُهُ إِلَى مَا يَرْضَاهُ، لِأَنَّ الْأَوَّابَ إِنَّمَا هُوَ فَعَّالٌ، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ آبَ فُلَانٌ مِنْ كَذَا إِمَّا مِنْ سَفَرِهِ إِلَى مِنْزِلِهِ، أَوْ مَنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، كَمَا قَالَ عَبِيدُ بْنُ الْأَبْرَصِ‏:‏

وَكُـلُّ ذِي غَيْبَـةٍ يَئُـوبُ *** وَغَـائِبُ الْمَـوْتِ لَا يَئُـوبُ

فَهُوَ يَئُوبُ أَوْبًا، وَهُوَ رَجُلٌ آئِبٌ مِنْ سَفَرِهِ، وَأَوَّابٌ مِنْ ذُنُوبِهِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 27‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا‏}‏‏.‏

اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِقَوْلِهِ ‏{‏وَآتِ ذَا الْقُرْبَى‏}‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ عَنَى بِهِ‏:‏ قَرَابَةَ الْمَيِّتِ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ‏.‏ أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِبَادَهُ بِصِلَتِهَا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ، قَالَ‏:‏ سَأَلَ رَجُلٌ الْحَسَنَ، قَالَ‏:‏ أُعْطِي قَرَابَتِي زَكَاةَ مَالِي فَقَالَ‏:‏ إِنَّ لَهُمْ فِي ذَلِكَ لَحَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ ‏{‏وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ‏}‏ قَالَ‏:‏ صِلَتُهُ الَّتِي تُرِيدُ أَنْ تَصِلَهُ بِهَا، مَا كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَهُ إِلَيْهِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ ‏{‏وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ‏}‏ قَالَ‏:‏ هُوَ أَنْ تَصِلَ ذَا الْقَرَابَةِ وَالْمِسْكِينَ وَتُحْسِنَ إِلَى ابْنِ السَّبِيلِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ عَنَى بِهِ قَرَابَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ الْأَسَدِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الصَّبَاحُ بْنُ يَحْيَى الْمُزَنِيُّ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي الدَّيْلَمِ، قَالَ‏:‏ قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ‏:‏ أَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ أَفَمَا قَرَأْتَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏{‏وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ‏}‏ قَالَ‏:‏ وَإِنَّكُمْ لَلْقَرَابَةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْ يُؤْتَى حَقَّهُ، قَالَ‏:‏ نَعَمْ‏.‏

وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ أَنَّهَا بِمَعْنَى وَصِيَّةِ اللَّهِ عِبَادَهُ بِصِلَةِ قَرَابَاتِ أَنْفُسِهِمْ وَأَرْحَامِهِمْ مِنْ قِبَلِ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَقَّبَ ذَلِكَ عُقَيْبَ حَضِّهِ عِبَادَهَ عَلَىبَرِّ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَضًّا عَلَى صِلَةِ أَنْسَابِهِمْ دُونَ أَنْسَابِ غَيْرِهِمُ الَّتِي لَمْ يَجُرِ لَهَا ذِكْرٌ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ‏:‏ وَأَعْطِ يَا مُحَمَّدُ ذَا قَرَابَتِكَ حَقَّهُ مِنْ صِلَتِكَ إِيَّاهُ، وَبِرِّكَ بِهِ، وَالْعَطْفِ عَلَيْهِ، وَخَرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ الْخِطَابِ لِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ بِحُكْمِهِ جَمِيعُ مَنْ لَزِمَتْهُ فَرَائِضُ اللَّهِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ابْتِدَاؤُهُ الْوَصِيَّةَ بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا‏}‏ فَوَجَّهَ الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ‏}‏ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ ‏{‏أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ‏}‏ فَرَجَعَ بِالْخِطَابِ بِهِ إِلَى الْجَمِيعِ، ثُمَّ صَرَفَ الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ ‏{‏إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ‏}‏ إِلَى إِفْرَادِهِ بِهِ‏.‏ وَالْمَعْنِيُّ بِكُلِّ ذَلِكَ جَمِيعُ مَنْ لَزِمَتْهُ فَرَائِضُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أُفْرِدَ بِالْخِطَابِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ، أَوْ عُمَّ بِهِ هُوَ وَجَمِيعُ أُمَّتِهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏(‏وَالْمِسْكِينَ‏)‏ وَهُوَ الذِّلَّةُ مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ‏.‏ وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى مَعْنَى الْمِسْكِينِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏ وَقَوْلُهُ ‏(‏وَابْنِ السَّبِيلِ‏)‏ يَعْنِي‏:‏ الْمُسَافِرَ الْمُنْقَطِعَ بِهِ، يَقُولُ تَعَالَى‏:‏ وَصِلْ قَرَابَتَكَ، فَأَعْطِهِ حَقَّهُ مِنْ صِلَتِكَ إِيَّاهُ، وَالْمِسْكِينَ ذَا الْحَاجَةِ، وَالْمُجْتَازَ بِكَ الْمُنْقَطِعَ بِهِ، فَأَعِنْهُ، وَقَوِّهِ عَلَى قَطْعِ سَفَرِهِ‏.‏ وَقَدْ قِيلَ‏:‏ إِنَّمَا عَنَى بِالْأَمْرِ بِإِتْيَانِ ابْنِ السَّبِيلِ حَقَّهُ أَنْ يُضَافَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ‏.‏

وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ عِنْدِي أَوْلَى بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُخَصِّصْ مِنْ حُقُوقِهِ شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ فِي كِتَابِهِ، وَلَا عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، فَذَلِكَ عَامٌّ فِي كُلِّ حَقٍّ لَهُ أَنْ يُعْطَاهُ مِنْ ضِيَافَةٍ أَوْ حُمُولَةٍ أَوْ مَعُونَةٍ عَلَى سَفَرِهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَلَا تُفَرِّقُ يَا مُحَمَّدُ مَا أَعْطَاكَ اللَّهُ مِنْ مَالٍ فِي مَعْصِيَتِهِ تَفْرِيقًا‏.‏ وَأَصْلُ التَّبْذِيرِ‏:‏ التَّفْرِيقُ فِي السَّرَفِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ‏:‏

أُنُـاسٌ أَجَارُونَـا فَكـانَ جِـوَارُهُمْ *** أَعَـاصِيرَ مِـنْ فِسْـقِ الْعِـرَاقِ الْمُبَذَّرِ

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْعُبَيْدَيْنِ، قَالَ‏:‏ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا‏}‏ قَالَ‏:‏ التَّبْذِيرُ فِي غَيْرِ الْحَقِّ، وَهُوَ الْإِسْرَافُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَلَمَةَ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ أَبِي الْعُبَيْدَيْنِ، قَالَ‏:‏ سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ عَنِ الْمُبَذِّرِ فَقَالَ‏:‏ الْإِنْفَاقُ فِي غَيْرِ حَقٍّ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ الْجَزَّارِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي الْعُبَيْدَيْنِ ضَرِيرِ الْبَصَرِ، أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ ‏{‏وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا‏}‏ قَالَ‏:‏ إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ‏.‏

حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ، عَنْ أَبِي الْعُبَيْدَيْنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ أَنَّ أَبَا الْعُبَيْدَيْنِ كَانَ ضَرِيرَ الْبَصَرِ، سَأَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ‏:‏ مَا التَّبْذِيرُ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ‏.‏

حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ أَسْلَمَ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا الْمَسْعُودِيُّ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي الْعُبَيْدَيْنِ، وَكَانَتْ بِهِ زَمَانَةٌ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَعْرِفُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ‏:‏ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا التَّبْذِيرُ‏؟‏ فَذَكَرَ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو الْحَوْءَبِ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ زُرَيْقٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضْرِبٍ، عَنْ أَبِي الْعُبَيْدَيْنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ‏:‏ كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَتَحَدَّثُ أَنَّ التَّبْذِيرَ‏:‏ النَّفَقَةُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ الْعَنْبَرِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ‏:‏ كُنْتُ أَمْشِي مَعَ أَبِي إِسْحَاقَ فِي طَرِيقِ الْكُوفَةِ، فَأَتَى عَلَى دَارٍ تُبْنَى بِجَصٍّ وَآجِرٍ، فَقَالَ‏:‏ هَذَا التَّبْذِيرُ فِي قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ‏:‏ إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ ‏{‏وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا‏}‏ قَالَ‏:‏ الْمُبَذِّرُ‏:‏ الْمُنْفِقُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِبَّادٌ، عَنْ حَصِينٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ الْمُبَذِّرُ‏:‏ الْمُنْفِقُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ لَا تُنْفِقْ فِي الْبَاطِلِ، فَإِنَّ الْمُبَذِّرَ‏:‏ هُوَ الْمُسْرِفُ فِي غَيْرِ حَقٍّ‏.‏

قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ لَوْ أَنْفَقَ إِنْسَانٌ مَالَهُ كُلَّهُ فِي الْحَقِّ مَا كَانَ تَبْذِيرًا، وَلَوْ أَنْفَقَ مُدًّا فِي بَاطِلٍ كَانَ تَبْذِيرًا‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا‏}‏ قَالَ‏:‏ التَّبْذِيرُ‏:‏ النَّفَقَةُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَفِي غَيْرِ الْحَقِّ وَفِي الْفَسَادِ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ‏}‏ قَالَ‏:‏ بَدَأَ بِالْوَالِدَيْنِ قَبْلَ هَذَا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْوَالِدَيْنِ وَحَقِّهِمَا، ذَكَرَ هَؤُلَاءِ وَقَالَ ‏{‏لَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا‏}‏‏:‏ لَا تُعْطِ فِي مَعَاصِي اللَّهِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ ‏{‏إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ‏}‏ فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ إِنَّ الْمُفَرِّقِينَ أَمْوَالَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ الْمُنْفِقِيهَا فِي غَيْرِ طَاعَتِهِ أَوْلِيَاءُ الشَّيَاطِينِ، وَكَذَلِكَ تَقُولُ الْعَرَبُ لِكُلِّ مُلَازِمٍ سُنَّةَ قَوْمٍ وَتَابِعٍ أَثَرَهُمْ‏:‏ هُوَ أَخُوهُمْ ‏{‏وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِنِعْمَةِ رَبِّهِ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْهِ جَحُودًا لَا يَشْكُرُهُ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ يَكْفُرُهَا بِتَرْكِ طَاعَةِ اللَّهِ، وَرُكُوبِهِ مَعْصِيَتَهُ، فَكَذَلِكَ إِخْوَانُهُ مِنْ بَنِي آدَمَ الْمُبَذِّرُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ، لَا يَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ يُخَالِفُونَ أَمْرَهُ وَيَعْصُونَهُ، وَيَسْتَنُّونَ فِيمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي خَوَّلَهُمُوهَا عَزَّ وَجَلَّ سَنَتَهُ مِنْ تَرْكِ الشُّكْرِ عَلَيْهَا، وَتَلَقِّيهَا بِالْكُفْرَانِ‏.‏

كَالَّذِي حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ‏}‏‏:‏ إِنَّ الْمُنْفِقِينَ فِي مَعَاصِي اللَّهِ ‏{‏كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَإِنْ تُعْرِضَ يَا مُحَمَّدُ عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَمَرْتُكَ أَنْ تُؤْتِيَهُمْ حُقُوقَهُمْ إِذَا وَجَدْتَ إِلَيْهَا السَّبِيلَ بِوَجْهِكَ عِنْدَ مَسْأَلَتِهِمْ إِيَّاكَ، مَا لَا تَجِدُ إِلَيْهِ سَبِيلًا حَيَاءً مِنْهُمْ وَرَحْمَةً لَهُمْ ‏{‏ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ انْتِظَارَ رِزْقٍ تَنْتَظِرُهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ، وَتَرْجُو تَيْسِيرَ اللَّهِ إِيَّاهُ لَكَ، فَلَا تُؤْيِسْهُمْ، وَلَكِنْ قُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا‏:‏ يَقُولُ‏:‏ وَلَكِنَّ عِدْهُمْ وَعْدًا جَمِيلًا بِأَنْ تَقُولَ‏:‏ سَيَرْزُقُ اللَّهُ فَأُعْطِيكُمْ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ اللَّيِّنِ غَيْرِ الْغَلِيظِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ‏{‏وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ‏}‏‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ‏{‏وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ انْتِظَارَ الرِّزْقِ ‏{‏فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا‏}‏ قَالَ‏:‏ لَيِّنًا تَعِدُهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ‏{‏ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ‏}‏ قَالَ‏:‏ رِزْقٌ ‏{‏أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عُمَارَةُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ انْتِظَارَ رِزْقٍ مِنَ اللَّهِ يَأْتِيكَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ إِنْ سَأَلُوكَ فَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَكَ مَا تُعْطِيهِمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ، قَالَ‏:‏ رِزْقٍ تَنْتَظِرُهُ تَرْجُوهُ ‏{‏فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا‏}‏ قَالَ‏:‏ عِدْهُمْ عِدَةً حَسَنَةً، إِذَا كَانَ ذَلِكَ، إِذَا جَاءَنَا ذَلِكَ فَعَلْنَا، أَعْطَيْنَاكُمْ، فَهُوَ الْقَوْلُ الْمَيْسُورُ‏.‏

قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ إِنْ سَأَلُوكَ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَكَ مَا تُعْطِيهِمْ، فَأَعْرَضْتَ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ، قَالَ‏:‏ رِزْقٍ تَنْتَظِرُهُ ‏{‏فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ‏{‏ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ‏}‏ قَالَ‏:‏ انْتِظَارَ رِزْقِ اللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَحْيَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ ‏{‏ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ ابْتِغَاءَ الرِّزْقِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدٍ ‏{‏وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ أَيْ رِزْقٍ تَنْتَظِرُهُ ‏{‏فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا‏}‏ أَيْ مَعْرُوفًا‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا‏}‏ قَالَ‏:‏ عِدْهُمْ خَيْرًا‏.‏ وَقَالَ الْحَسَنُ‏:‏ قُلْ لَهُمْ قَوْلًا لَيِّنًا وَسَهْلًا‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ‏:‏ ثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ لَا تَجِدُ شَيْئًا تُعْطِيهِمْ ‏{‏ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ انْتِظَارَ الرِّزْقِ مِنْ رَبِّكَ، نَزَلَتْ فِيمَنْ كَانَ يَسْأَلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَسَاكِينِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي عُمَارَةُ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِ اللَّهِ ‏{‏فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا‏}‏ قَالَ‏:‏ الرِّفْقُ‏.‏

وَكَانَ ابْنُ زَيْدٍ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي بِهِ يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ‏}‏ عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَوْصَيْنَاكَ بِهِمْ ‏{‏ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا‏}‏ إِذَا خَشِيَتْ إِنْ أَعْطَيْتَهُمْ أَنْ يَتَقَوَّوْا بِهَا عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَيْهَا، فَرَأَيْتَ أَنْ تَمْنَعَهُمْ خَيْرًا، فَإِذَا سَأَلُوكَ ‏{‏فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا‏}‏ قَوْلًا جَمِيلًا‏:‏ رَزَقَكَ اللَّهُ، بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ‏.‏

وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ مَعَ خِلَافِهِ أَقْوَالَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، بَعِيدُ الْمَعْنَى، مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُهَا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏{‏وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا‏}‏ فَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ إِذَا كَانَ إِعْرَاضُهُ عَنِ الْقَوْمِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ انْتِظَارَ رَحْمَةٍ مِنْهُ يَرْجُوهَا مِنْ رَبِّهِ ‏{‏قَوْلًا مَيْسُورًا‏}‏ وَذَلِكَ الْإِعْرَاضُ ابْتِغَاءَ الرَّحْمَةِ، لَنْ يَخْلُوَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ‏:‏ إِمَّا أَنْ يَكُونَ إِعْرَاضًا مِنْهُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ يَرْجُوهَا لِنَفْسِهِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ كَمَا قُلْنَاهُ، وَقَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ الَّذِينَ ذَكَرْنَا قَوْلَهُمْ، وَخِلَافُ قَوْلِهِ؛ أَوْ يَكُونُ إِعْرَاضًا مِنْهُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ يَرْجُوهَا لِلسَّائِلِينَ الَّذِينَ أُمِرَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَعْمِهِ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مَا سَأَلُوهُ خَشْيَةً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْ يُنْفِقُوهُ فِي مَعَاصِي اللَّهِ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ سُخْطَ اللَّهِ عَلَى مَنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ مِنْهُ صَرْفَ مَا أُعْطِيَ مِنْ نَفَقَةٍ لِيَتَقَوَّى بِهَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فِي مَعَاصِيهِ، أَخْوَفُ مِنْ رَجَاءِ رَحْمَتِهِ لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ إِنَّمَا تُرْجَى لِأَهْلِ طَاعَتِهِ، لَا لِأَهْلِ مَعَاصِيهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ تَوْجِيهَ ذَلِكَ إِلَى أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرَ بِمَنْعِهِمْ مَا سَأَلُوهُ، لِيُنِيبُوا مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ، وَيَتُوبُوا بِمَنْعِهِ إِيَّاهُمْ مَا سَأَلُوهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ وَجْهًا يَحْتَمِلُهُ تَأْوِيلُ الْآيَةِ، وَإِنْ كَانَ لِقَوْلِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ مُخَالِفًا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا‏}‏‏.‏

وَهَذَا مَثَلٌ ضَرْبَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْمُمْتَنِعِ مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي الْحُقُوقِ الَّتِي أَوْجَبَهَا فِي أَمْوَالِ ذَوِي الْأَمْوَالِ، فَجَعَلَهُ كَالْمَشْدُودَةِ يَدَهُ إِلَى عُنُقِهِ، الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْأَخْذِ بِهَا وَالْإِعْطَاءِ‏.‏

وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ وَلَا تُمْسِكُ يَا مُحَمَّدُ يَدَكَ بُخْلًا عَنِ النَّفَقَةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ، فَلَا تُنْفِقْ فِيهَا شَيْئًا إِمْسَاكَ الْمَغْلُولَةِ يَدَهُ إِلَى عُنُقِهِ، الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ بَسْطَهَا ‏{‏وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَلَا تَبْسُطُهَا بِالْعَطِيَّةِ كُلَّ الْبَسْطِ، فَتَبْقَى لَا شَيْءَ عِنْدَكَ، وَلَا تَجِدُ إِذَا سُئِلَتْ شَيْئًا تُعْطِيهِ سَائِلَكَ ‏{‏فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَتَقْعُدُ يَلُومُكَ سَائِلُوكَ إِذَا لَمْ تُعْطِهِمْ حِينَ سَأَلُوكَ، وَتَلُومُكَ نَفْسُكَ عَلَى الْإِسْرَاعِ فِي مَالِكَ وَذَهَابِهِ، مَحْسُورًا‏:‏ يَقُولُ‏:‏ مَعِيبًا، قَدِ انْقُطِعَ بِكَ، لَا شَيْءَ عِنْدَكَ تُنْفِقُهُ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ لِلدَّابَّةِ الَّتِي قَدْ سِيرَ عَلَيْهَا حَتَّى انْقَطَعَ سَيْرُهَا، وَكَلَّتْ وَرَزَحَتْ مِنَ السَّيْرِ، بِأَنَّهُ حَسِيرٌ‏.‏ يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ حَسَرَتِ الدَّابَّةُ فَأَنَا أُحْسِرُهَا، وَأُحْسُرُهَا حَسْرًا، وَذَلِكَ إِذَا أَنْضَيْتُهُ بِالسَّيْرِ، وَحَسَرْتَهُ بِالْمَسْأَلَةِ إِذَا سَأَلْتَهُ فَأَلْحَفَتْ، وَحَسَرَ الْبَصَرُ فَهُوَ يَحْسِرُ، وَذَلِكَ إِذَا بَلَغَ أَقْصَى الْمَنْظَرِ فَكَلَّ‏.‏ وَمِنْهُ قَوْلُهُ عزَ وَجِلَ ‏{‏يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ‏}‏ وَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ كَلَّ وَأَزْحَفُ حَتَّى يَضْنَى‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا هَوْدَةُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ‏}‏ قَالَ‏:‏ لَا تَجْعَلُهَا مَغْلُولَةً عَنِ النَّفَقَةِ ‏{‏وَلَا تَبْسُطْهَا‏}‏‏:‏ تُبَذِّرُ بِسَرَفٍ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يُوسُفُ بْنُ بِهْزٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا حَوْشَبٌ، قَالَ‏:‏ كَانَ الْحَسَنُ إِذَا تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ ‏{‏وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ لَا تُطَفِّفْ بِرِزْقِي عَنْ غَيْرِ رِضَايَ، وَلَا تَضَعْهُ فِي سُخْطِي فَأَسْلُبَكَ مَا فِي يَدَيْكَ، فَتَكُونُ حَسِيرًا لَيْسَ فِي يَدَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ ‏{‏وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا‏}‏ يَقُولُ هَذَا فِي النَّفَقَةِ، يَقُولُ ‏{‏لَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ لَا تَبْسُطُهَا بِالْخَيْرِ ‏{‏وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ‏}‏ يَعْنِي التَّبْذِيرَ ‏{‏فَتَقْعُدَ مَلُومًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ يَلُومُ نَفْسَهُ عَلَى مَا فَاتَ مِنْ مَالِهِ ‏(‏مَحْسُورًا‏)‏ يَعْنِي‏:‏ ذَهَبَ مَالَهُ كُلَّهُ فَهُوَ مَحْسُورٌ‏.‏

حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ ‏{‏وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ‏}‏ يَعْنِي بِذَلِكَ الْبُخْلَ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ‏}‏ أَيْ لَا تُمْسِكْهَا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَلَا عَنْ حَقِّهِ ‏{‏وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ لَا تُنْفِقُهَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَا فِيمَا يَصْلُحُ لَكَ، وَلَا يَنْبَغِي لَكَ، وَهُوَ الْإِسْرَافُ، قَوْلُهُ ‏{‏فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا‏}‏ قَالَ‏:‏ مَلُومًا فِي عِبَادِ اللَّهِ، مَحْسُورًا عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ دَهْرِهِ وَفَرَطَ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مُعَمَّرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ‏}‏ قَالَ‏:‏ فِي النَّفَقَةِ، يَقُولُ‏:‏ لَا تُمْسِكْ عَنِ النَّفَقَةِ ‏{‏وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ لَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ‏{‏فَتَقْعُدَ مَلُومًا‏}‏ فِي عِبَادِ اللَّهِ ‏(‏مَحْسُورًا‏)‏ يَقُولُ‏:‏ نَادِمًا عَلَى مَا فَرَطَ مِنْكَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ لَا تُمْسِكْ عَنِ النَّفَقَةِ فِيمَا أَمَرْتُكَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ ‏{‏وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ‏}‏ فِيمَا نَهَيْتُكَ ‏{‏فَتَقْعُدَ مَلُومًا‏}‏ قَالَ‏:‏ مُذْنِبًا ‏(‏مَحْسُورًا‏)‏ قَالَ‏:‏ مُنْقَطِعًا بِكَ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ‏}‏ قَالَ‏:‏ مَغْلُولَةٌ لَا تَبْسُطُهَا بِخَيْرٍ وَلَا بِعَطِيَّةٍ ‏{‏وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ‏}‏ فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَيَنْفُذَ مَا مَعَكَ، وَمَا فِي يَدَيْكَ، فَيَأْتِيَكَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ تُعْطِيَهُ فَيَحْسَرَ بِكَ، فَيَلُومَكَ حِينَ أَعْطَيْتَ هَؤُلَاءِ، وَلَمْ تُعْطِهِمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ إِنْ رَبَّكَ يَا مُحَمَّدُ يَبْسُطُ رِزْقَهُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، فَيُوَسِّعُ عَلَيْهِ، وَيَقْدِرُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، يَقُولُ‏:‏ وَيُقَتِّرُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ، فَيُضَيِّقُ عَلَيْهِ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا‏}‏‏:‏ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ رَبَّكَ ذُو خِبْرَةٍ بِعِبَادِهِ، وَمَنِ الَّذِي تُصْلِحُهُ السِّعَةُ فِي الرِّزْقِ وَتُفْسِدُهُ؛ وَمَنِ الَّذِي يُصْلِحُهُ الْإِقْتَارُ وَالضِّيقُ وَيُهْلِكُهُ ‏(‏بَصِيرًا‏)‏‏:‏ يَقُولُ‏:‏ هُوَ ذُو بَصَرٍ بِتَدْبِيرِهِمْ وَسِيَاسَتِهِمْ، يَقُولُ‏:‏ فَانْتَهِ يَا مُحَمَّدُ إِلَى أَمْرِنَا فِيمَا أَمَرْنَاكَ وَنَهَيْنَاكَ مِنْ بَسَطِ يَدِكَ فِيمَا تَبْسُطُهَا فِيهِ، وَفِيمَنْ تَبْسُطُهَا لَهُ، وَمِنْ كَفِّهَا عَمَّنْ تَكُفُّهَا عَنْهُ، وَتَكُفُّهَا فِيهِ، فَنَحْنُ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ مِنْكَ، وَمِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ وَأَبْصَرُ بِتَدْبِيرِهِمْ‏.‏

كَالَّذِي حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، ثُمَّ أَخْبَرَنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَيْفَ يَصْنَعُ، فَقَالَ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ‏}‏ قَالَ‏:‏ يَقْدِرُ‏:‏ يُقِلُّ، وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ يَقْدِرُ كَذَلِكَ؛ ثُمَّ أَخْبَرَ عِبَادَهُ أَنَّهُ لَا يَرْزَؤُهُ وَلَا يَئُودُهُ أَنْ لَوْ بَسَّطَ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ نَظَرًا لَهُمْ مِنْهُ، فَقَالَ ‏{‏وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنـزلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ‏}‏ قَالَ‏:‏ وَالْعَرَبُ إِذَا كَانَ الْخَصْبُ وَبُسِطَ عَلَيْهِمْ أُشِرُوا، وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَجَاءَ الْفَسَادُ، فَإِذَا كَانَ السَّنَةُ شُغِلُوا عَنْ ذَلِكَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ‏}‏ يَا مُحَمَّدُ ‏{‏أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا‏}‏، ‏{‏وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ‏}‏ فَمَوْضِعُ تَقْتُلُوا نَصْبٌ عَطْفًا عَلَى أَلَّا تَعْبُدُوا‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ ‏{‏خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ‏}‏ خَوْفَ إِقْتَارٍ وَفَقْرٍ، وَقَدْ بَيَّنَا ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى، وَذَكَرَنَا الرِّوَايَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ذَلِكَ لِلْعَرَبِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ الْإِنَاثَ مِنْ أَوْلَادِهِمْ خَوْفَ الْعِيلَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِنَّ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعْدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ‏}‏‏:‏ أَيْ خَشْيَةَ الْفَاقَةِ، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقْتُلُونَ أَوْلَادَهُمْ خَشْيَةَ الْفَاقَةِ، فَوَعَظَهُمُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ رِزْقَهُمْ وَرِزْقَ أَوْلَادِهِمْ عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ ‏{‏نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ كَانُوا يَقْتُلُونَ الْبَنَاتَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ مُجَاهِدٌ ‏{‏وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْفَاقَةِ وَالْفَقْرِ‏.‏

حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ ‏{‏خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ الْفَقْرُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ ‏{‏إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا‏}‏ فَإِنَّ الْقُرَّاءَ اخْتَلَفَتْ فِي قِرَاءَتِهِ؛ فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهَّلِ الْمَدِينَةِ وَالْعِرَاقِ ‏{‏إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا‏}‏ بِكَسْرِ الْخَاءِ مِنَ الْخَطْإِ وَسُكُونِ الطَّاءِ، وَإِذَا قُرِئَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، كَانَ لَهُ وَجْهَانِ مِنَ التَّأْوِيلِ‏:‏ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ اسْمًا مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ خَطِئْتُ فَأَنَا أُخْطِأُ، بِمَعْنَى‏:‏ أَذْنَبْتُ وَأَثِمْتُ‏.‏ وَيُحْكَى عَنِ الْعَرَبِ‏:‏ خَطِئْتُ‏:‏ إِذَا أَذْنَبْتَ عَمْدًا، وَأَخْطَأْتُ‏:‏ إِذَا وَقَعَ مِنْكَ الذَّنْبُ خَطَأً عَلَى غَيْرِ عَمْدٍ مِنْكَ لَهُ‏.‏ وَالثَّانِي‏:‏ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى خَطَأٍ بِفَتْحِ الْخَاءَ وَالطَّاءَ، ثُمَّ كُسِرَتِ الْخَاءُ وَسَكَنَتِ الطَّاءُ، كَمَا قِيلَ‏:‏ قِتْبٌ وَقَتَبٌ وحِذَرٌ، وَنَجِسٌ وَنَجَسٌ‏.‏ وَالْخِطْءُ بِالْكَسْرِ اسْمٌ، وَالْخَطَأُ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ خَطِئَ الرَّجُلُ؛ وَقَدْ يَكُونُ اسْمًا مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ أَخْطَأَ‏.‏ فَأَمَّا الْمَصْدَرُ مِنْهُ فَالْإِخْطَاءُ‏.‏ وَقَدْ قِيلَ‏:‏ خَطِئَ، بِمَعْنَى أَخْطَأَ، كَمَا قَالَ‏:‏ الشَّاعِرُ‏:‏

يَا لَهْفَ هِنْدٍ إِذْ خَطِئْنَ كَاهِلًا ***

بِمَعْنَى‏:‏ أَخْطَئْنَ‏.‏ وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خَطَأً‏}‏ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ مَقْصُورًا عَلَى تَوْجِيهِهِ إِلَى أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ أَخْطَأَ فُلَانٌ خَطَّأَ‏.‏ وَقَرَأَهُ بَعْضُ قُرَّاءِ أَهْلِ مَكَّةَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خَطَاءً‏}‏ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ، وَمَدِّ الْخَطَاءِ بِنَحْوِ مَعْنَى مَنْ قَرَأَهُ خَطَّأَ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ، غَيْرَ أَنَّهُ يُخَالِفُهُ فِي مَدِّ الْحَرْفِ‏.‏

وَكَانَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَبَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ مِنْهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الْخِطْءَ وَالْخَطَأَ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، إِلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ زَعْمَ أَنَّ الْخِطْءَ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الطَّاءِ فِي الْقِرَاءَةِ أَكْثَرُ، وَأَنَّ الْخَطَأَ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ فِي كَلَامِ النَّاسِ أَفْشَى، وَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعِ الْخِطْءَ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الطَّاءِ، فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ، إِلَّا فِي بَيْتٍ أَنْشَدَهُ لِبَعْضِ الشُّعَرَاءِ‏:‏

الْخِـطْءُ فاحِشَـةٌ وَالْـبِرُّ نافِلَـةٌ *** كعَجْـوَةٍ غُرِسَـتْ فِـي الْأَرْضِ تُؤْتَبَرُ

وَقَدْ ذَكَرْتُ الْفِرَقَ بَيْنَ الْخِطْءِ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الطَّاءِ وَفَتْحِهِمَا‏.‏

وَأَوْلَى الْقِرَاءَاتِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا بِالصَّوَابِ، الْقِرَاءَةُ الَّتِي عَلَيْهَا قُرَّاءُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَعَامَّةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهَا، وَشُذُوذِ مَا عَدَاهَا‏.‏ وَإِنَّ مَعْنًى ذَلِكَ كَانَ إِثْمًا وَخَطِيئَةً، لَا خَطَأً مِنَ الْفِعْلِ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا كَانُوا يَقْتُلُونَهُمْ عَمْدًا لَا خَطَأً، وَعَلَى عَمْدِهِمْ ذَلِكَ عَاتَبَهُمْ رَبُّهُمْ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ بِالنَّهْي عَنْهُ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏(‏خِطْأً كَبِيرًا‏)‏ قَالَ‏:‏ أَيْ خَطِيئَةً‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏(‏إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْأً كَبِيرًا‏)‏ قَالَ‏:‏ خَطِيئَةً‏.‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ خِطْأً‏:‏ أَيْ خَطِيئَةً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَقَضَى أَيْضًا أَنْ ‏(‏لَا تَقْرَبُوا‏)‏ أَيُّهَا النَّاسُ ‏{‏الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً‏}‏ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ الزِّنَا كَانَ فَاحِشَةً ‏{‏وَسَاءَ سَبِيلًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَسَاءَ طَرِيقُ الزِّنَا طَرِيقًا، لِأَنَّهُ طَرِيقُ أَهْلِ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَالْمُخَالِفِينَ أَمْرَهُ، فَأَسْوِئْ بِهِ طَرِيقًا يُورِدُ صَاحِبَهُ نَارَ جَهَنَّمَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّوَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ وَقَضَى أَيْضًا أَنْ ‏(‏لَا تَقْتُلُوا‏)‏ أَيُّهَا النَّاسُ ‏{‏النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ‏}‏ قَتْلَهَا ‏{‏إِلَّا بِالْحَقِّ‏}‏ وَحَقُّهَا أَنْ لَا تَقْتُلَ إِلَّا بِكُفْرٍ بَعْدَ إِسْلَامٍ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ قَوَدِ نَفْسٍ، وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً لَمْ يَتَقَدَّمْ كُفْرَهَا إِسْلَامٌ، فَإِنْ لَا يَكُونَ تَقَدَّمَ قَتْلُهَا لَهَا عَهْدٌ وَأَمَانٌ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ‏}‏ وَإِنَّا وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ بِحَلِّ دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ، إِلَّا رَجُلًا قَتْلَ مُتَعَمَّدًا، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، أَوْ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ فَعَلَيْهِ الرَّجْمُ، أَوْ كُفْرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ فَعَلَيْهِ الْقَتْلُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزَّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ أَوْ غَيْرِهِ، قَالَ‏:‏ قِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ‏:‏ أَتَقْتُلُ مَنْ يَرَى أَنْ لَا يُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ، قَالَ‏:‏ لَوْ مَنَعُونِي شَيْئًا مِمَّا أَقَرُّوا بِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَاتِلَتُهُمْ فَقِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ‏:‏ أَلَيْسَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا‏:‏ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّه» “ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ‏:‏ هَذَا مِنْ حَقِّهَا‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ سَهْلٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَمْرُو بْنُ هَاشِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانٍ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّى دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ؛ قِيلَ‏:‏ وَمَا حَقُّهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، و كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ، وَقَتْلُ نَفْسٍ فَيُقْتَلُ بِهَا»‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَمِنْ قُتِلَ بِغَيْرِ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ إِذَا قُتِلَ بِهَا كَانَ قَتْلًا بِحَقٍّ ‏{‏فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَقَدْ جَعَلَنَا لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ ظُلْمًا سُلْطَانًا عَلَى قَاتِلِ وَلَيِّهِ، فَإِنْ شَاءَ اسْتَقَادَ مِنْهُ فَقَتْلَهُ بِوَلِيِّهِ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ‏.‏

وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَعْنَى السُّلْطَانِ الَّذِي جُعِلَ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ، نَحْوَ الَّذِي قُلْنَا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ ثَنْيَ أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ ‏{‏وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا‏}‏ قَالَ‏:‏ بَيِّنَةٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَهَا يَطْلُبُهَا وَلِيُّ الْمَقْتُولِ، الْعَقْلَ، أَوِ الْقَوَدَ،

وَذَلِكَ السُّلْطَانُ‏.‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا‏}‏ قَالَ‏:‏ إِنْ شَاءَ عَفَا، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ ذَلِكَ السُّلْطَانُ‏:‏ هُوَ الْقَتْلُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا‏}‏ وَهُوَ الْقَوَدُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى‏.‏

وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ‏:‏ أَنَّ السُّلْطَانَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، مِنْ أَنَّ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْقَتْلَ إِنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ، وَإِنْ شَاءَ الْعَفْوَ، لِصِحَّةِ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ‏:‏ «“ أَلَّا وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَقْتُلَ أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ “»‏.‏ قَدْ بَيَّنَتُ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا‏:‏ كِتَابِ الْجِرَاحِ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ‏}‏ اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ ‏(‏فَلَا تُسْرِفْ‏)‏ بِمَعْنَى الْخِطَابِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُوَ وَالْأَئِمَّةُ مِنْ بَعْدِهِ، يَقُولُ‏:‏ فَلَا تَقْتُلُ بِالْمَقْتُولِ ظُلْمًا غَيْرَ قَاتِلِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إِذَا قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا عَمَدَ وَلِيُّ الْقَتِيلِ إِلَى الشَّرِيفِ مِنْ قَبِيلَةِ الْقَاتِلِ، فَقَتَلَهُ بِوَلِيِّهِ، وَتَرَكَ الْقَاتِلَ، فَنَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ عِبَادَهُ، وَقَالَ لِرَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ قَتْلُ غَيْرِ الْقَاتِلِ بِالْمَقْتُولِ مَعْصِيَةٌ وَسَرَفٌ، فَلَا تَقْتُلُ بِهِ غَيْرَ قَاتِلِهِ، وَإِنْ قَتَلَتِ الْقَاتِلَ بِالْمَقْتُولِ فَلَا تُمَثِّلْ بِهِ‏.‏ وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ ‏(‏فَلَا يُسْرِفْ‏)‏ بِالْيَاءِ، بِمَعْنَى فَلَا يُسْرِفْ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ، فَيَقْتُلُ غَيْرَ قَاتِلِ وَلَيِّهِ‏.‏ وَقَدْ قِيلَ‏:‏ عَنَى بِهِ‏:‏ فَلَا يُسْرِفِ الْقَاتِلُ الْأَوَّلُ لَا وَلِيَّ الْمَقْتُولِ‏.‏

وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي، أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّ خِطَابَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ، قَضَاءٌ مِنْهُ بِذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ عِبَادِهِ، وَكَذَلِكَ أَمْرَهُ وَنَهْيُهُ بَعْضَهُمْ، أَمَرٌ مِنْهُ وَنَهْيُ جَمِيعَهُمْ، إِلَّا فِيمَا دَلَّ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِهِ بَعْضٌ دُونَ بَعْضٍ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ بِمَا قَدْ بَيَّنَا فِي كِتَابِنَا ‏[‏كِتَابِ الْبَيَانِ، عَنْ أُصُولِ الْأَحْكَامِ‏]‏ فَمَعْلُومٌ أَنَّ خِطَابَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ ‏(‏فَلَا تُسْرِفُ فِي الْقَتْلِ‏)‏ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ كَانَ مَوَجَّهًا إِلَيْهِ أَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ جَمِيعَ عِبَادِهِ، فَكَذَلِكَ نَهْيُهُ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ أَوِ الْقَاتِلِ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي الْقَتْلِ، وَالتَّعَدِّي فِيهِ نَهْيٌ لِجَمِيعِهِمْ، فَبِأَيِّ ذَلِكَ قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ صَوَابُ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ‏.‏

وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِهِمْ ذَلِكَ نَحْوَ اخْتِلَافِ الْقُرَّاءِ فِي قِرَاءَتِهِمْ إِيَّاهُ‏.‏

ذَكْرُ مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ‏:‏ بِمَعْنَى الْخِطَابِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَا ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ طَلَقِ بْنِ حَبِيبٍ، فِي قَوْلِهِ ‏(‏فَلَا تُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ‏)‏ قَالَ لَا تَقْتُلْ غَيْرَ قَاتِلِهِ، وَلَا تُمَثِّلْ بِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا جَرِيرٌ‏.‏ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ طَلَقِ بْنِ حَبِيبٍ، بِنَحْوِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ خَصِيفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِهِ ‏(‏فَلَا تُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ‏)‏ قَالَ‏:‏ لَا تَقْتُلُ اثْنَيْنِ بِوَاحِدٍ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ‏:‏ أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ ‏{‏فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا‏}‏ كَانَ هَذَا بِمَكَّةَ، وَنَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا، وَهُوَ أَوَّلُ شَيْءٍ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي شَأْنِ الْقَتْلِ، كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَغْتَالُونَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ «مَنْ قَتْلَكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ قَتْلُهُ إِيَّاكُمْ عَلَى أَنْ تَقْتُلُوا لَهُ أَبًا أَوْ أَخًا أَوْ أَحَدًا مِنْ عَشِيرَتِهِ، وَإِنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ، فَلَا تَقْتُلُوا إِلَّا قَاتَلَكُمْ؛ » وَهَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ بَرَاءَةً، وَقَبْلَ أَنْ يُؤْمَرُوا بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ ‏(‏فَلَا تُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ لَا تَقْتُلْ غَيْرَ قَاتِلِكَ، وَهِيَ الْيَوْمُ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوا إِلَّا قَاتَلَهُمْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ‏:‏ عُنِيَ بِهِ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ عَلِيَّةَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو رَجَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا‏}‏ قَالَ‏:‏ كَانَ الرَّجُلُ يُقْتَلُ فَيَقُولُ وَلَيُّهُ‏:‏ لَا أَرْضَى حَتَّى أَقْتُلَ بِهِ فُلَانًا وَفُلَانًا مِنْ أَشْرَافِ قَبِيلَتِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ‏(‏فَلَا تُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ‏)‏ قَالَ‏:‏ لَا تَقْتُلْ غَيْرَ قَاتِلِكَ، وَلَا تُمَثِّلْ بِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ‏}‏ قَالَ‏:‏ لَا يَقْتُلْ غَيْرَ قَاتِلِهِ؛ مَنْ قَتَلَ بِحَدِيدَةٍ قُتِلَ بِحَدِيدَةٍ؛ وَمَنْ قَتَلَ بِخَشَبَةٍ قُتِلَ بِخَشَبَةٍ؛ وَمَنْ قَتَلَ بِحَجَرٍ قُتِلَ بِحَجَرٍ‏.‏ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ‏:‏ «“ إِنَّ مِنْ أَعْتَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ثَلَاثَةً‏:‏ رَجُلٌ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، أَوْ قَتَلَ بِدَخَنٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ قَتَلَ فِي حَرَمِ اللَّهِ “»‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُهُ، يَعْنِي ابْنَ زَيْدٍ، يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ‏{‏وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا‏}‏ قَالَ‏:‏ إِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ إِذَا قُتِلَ مِنْهُمْ قَتِيلٌ، لَمْ يَرْضَوْا أَنْ يَقْتُلُوا قَاتِلَ صَاحِبِهِمْ، حَتَّى يَقْتُلُوا أَشْرَفَ مِنَ الَّذِي قَتَلَهُ، فَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ‏{‏فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا‏}‏ يَنْصُرُهُ وَيَنْتَصِفُ مِنْ حَقِّهِ ‏{‏فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ‏}‏ يَقْتُلْ بَرِيئًا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ عُنِيَ بِهِ الْقَاتِلُ‏:‏ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ‏{‏فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ‏}‏ قَالَ‏:‏ لَا يُسْرِفِ الْقَاتِلُ فِي الْقَتْلِ‏.‏

وَقَدْ ذَكَرْنَا الصَّوَابَ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا، وَإِذَا كَانَ كِلَا وَجْهَيِّ الْقِرَاءَةِ عِنْدَنَا صَوَابًا، فَكَذَلِكَ جَمِيعُ أَوْجُهِ تَأْوِيلِهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا غَيْرُ خَارِجٍ وَجْهٍ مِنْهَا مِنَ الصَّوَابِ، لِاحْتِمَالِ الْكَلَامِ ذَلِكَ، وَإِنَّ فِي نَهْيِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بَعْضَ خَلْقِهِ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي الْقَتْلِ، نَهْيٌ مِنْهُ جَمِيعَهُمْ عَنْهُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا‏}‏ فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فَيَمُنُّ عُنِيَ بِالْهَاءِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ ‏(‏إِنَّهُ‏)‏ وَعَلَى مَا هِيَ عَائِدَةٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هِيَ عَائِدَةٌ عَلَى وَلِيِّ الْمَقْتُولِ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِهَا، وَهُوَ الْمَنْصُورُ عَلَى الْقَاتِلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا‏}‏ قَالَ‏:‏ هُوَ دَفْعُ الْإِمَامِ إِلَيْهِ، يَعْنِي إِلَى الْوَلِيِّ، فَإِنْ شَاءَ قَتْلَ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ عُنِيَ بِهَا الْمَقْتُولُ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ هِيَ عَائِدَةٌ عَلَى “ مَنْ “ فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا‏}‏‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا‏}‏ إِنَّ الْمَقْتُولَ كَانَ مَنْصُورًا‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ عُنِيَ بِهَا دَمُ الْمَقْتُولِ، وَقَالُوا‏:‏ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ إِنَّ دَمَ الْقَتِيلِ كَانَ مَنْصُورًا عَلَى الْقَاتِلِ‏.‏

وَأَشْبَهُ ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدِي، قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ عُنِيَ بِهَا الْوَلِيُّ، وَعَلَيْهِ عَادَتْ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمَظْلُومُ، وَوَلِيُّهُ الْمَقْتُولُ، وَهِيَ إِلَى ذِكْرِهِ أَقْرَبُ مِنْ ذِكْرِ الْمَقْتُولِ، وَهُوَ الْمَنْصُورُ أَيْضًا، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَضَى فِي كِتَابِهِ الْمُنَزَّلِ، أَنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَى قَاتِلِ وَلِيِهِ، وَحَكَّمَهُ فِيهِ، بِأَنْ جَعْلَ إِلَيْهِ قَتْلَهُ إِنْ شَاءَ، وَاسْتِبْقَاءَهُ عَلَى الدِّيَةِ إِنْ أَحَبَّ، وَالْعَفْوَ عَنْهُ إِنْ رَأَى، وَكَفَى بِذَلِكَ نُصْرَةً لَهُ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، فَلِذَلِكَ قُلْنَا‏:‏ هُوَ الْمَعْنِيُّ بِالْهَاءِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَقَضَى أَيْضًا أَنْ لَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ بِأَكْلٍ، إِسْرَافًا وَبِدَارًا إِلَى أَنْ يَكْبَرُوا، وَلَكِنِ اقْرَبُوهُ بِالْفَعْلَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَالْخُلَّةِ الَّتِي هِيَ أَجْمَلُ، وَذَلِكَ أَنْ تَتَصَرَّفُوا فِيهِ لَهُ بِالتَّثْمِيرِ وَالْإِصْلَاحِ وَالْحِيطَةِ‏.‏

وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانُوا لَا يُخَالِطُونَهُمْ فِي طَعَامٍ أَوْ أَكْلٍ وَلَا غَيْرِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ‏{‏وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ‏}‏ فَكَانَتْ هَذِهِ لَهُمْ فِيهَا رُخْصَةً‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏ قَالَ‏:‏ كَانُوا لَا يُخَالِطُونَهُمْ فِي مَالٍ وَلَا مَأْكَلٍ وَلَا مَرْكَبٍ، حَتَّى نَزَلَتْ ‏{‏وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ‏}‏‏.‏

وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْأَكْلُ بِالْمَعْرُوفِ، أَنْ تَأْكُلَ مَعَهُ إِذَا احْتَجْتَ إِلَيْهِ، كَانَ أُبَيٌّ يَقُولُ ذَلِكَ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ حَتَّى يَبْلُغَ وَقْتَ اشْتِدَادِهِ فِي الْعَقْلِ، وَتَدْبِيرِ مَالِهِ، وَصَلَاحِ حَالِهِ فِي دِينِهِ ‏{‏وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَأَوْفُوا بِالْعَقْدِ الَّذِي تُعَاقِدُونَ النَّاسَ فِي الصُّلْحِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَالْإِسْلَامِ، وَفِيمَا بَيْنَكُمْ أَيْضًا، وَالْبُيُوعِ وَالْأَشْرِبَةِ وَالْإِجَارَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُقُودِ ‏{‏إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ سَائِلٌ نَاقِضَ الْعَهْدِ عَنْ نَقْضِهِ إِيَّاهُ، يَقُولُ‏:‏ فَلَا تَنْقُضُوا الْعُهُودَ الْجَائِزَةَ بَيْنَكُمْ، وَبَيْنَ مَنْ عَاهَدْتُمُوهُ أَيُّهَا النَّاسُ فَتُخْفِرُوهُ، وَتَغْدِرُوا بِمَنْ أَعْطَيْتُمُوهُ ذَلِكَ‏.‏ وَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ أَنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَطْلُوبًا، يُقَالُ فِي الْكَلَامِ‏:‏ لِيُسْئَلَنَّ فُلَانٌ عَهْدَ فُلَانٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏(‏وَ‏)‏ قَضَى أَنْ ‏(‏أَوْفُوا الْكَيْلَ‏)‏ لِلنَّاسِ ‏(‏إِذَا كِلْتُمْ‏)‏ لَهُمْ حُقُوقَهُمْ قِبَلَكُمُ، وَلَا تَبْخَسُوهُمْ ‏{‏وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏

وَقَضَى أَنْ زِنَوْا أَيْضًا إِذَا وَزَنْتُمْ لَهُمْ بِالْمِيزَانِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهُوَ الْعَدْلُ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، وَلَا دَغَلَ، وَلَا خَدِيعَةَ‏.‏

وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الْقِسْطَاسِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هُوَ الْقَبَّانُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ ذَكْوَانَ، عَنِ الْحَسَنِ ‏{‏وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْقَبَّانِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هُوَ الْعَدْلُ بِالرُّومِيَّةِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ الْقِسْطَاسُ‏:‏ الْعَدْلُ بِالرُّومِيَّةِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هُوَ الْمِيزَانُ صَغُرَ أَوْ كَبُرَ؛ وَفِيهِ لُغَتَانِ‏:‏ الْقِسْطَاسُ بِكَسْرِ الْقَافِ، وَالْقُسْطَاسُ بِضَمِّهَا، مِثْلُ الْقِرْطَاسِ وَالْقُرْطَاسِ؛ وَبِالْكَسْرِ يَقْرَأُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَبِالضَّمِّ يَقْرَأُ عَامَّهُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَقَدْ قَرَأَ بِهِ أَيْضًا بَعْضُ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ، وَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، لِأَنَّهُمَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَقِرَاءَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ فِي قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏(‏ذَلِكَ خَيْرٌ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ إِيفَاؤُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ تَكِيلُونَ لَهُ الْكَيْلَ، وَوَزْنُكُمْ بِالْعَدْلِ لِمَنْ تُوَفُّونَ لَهُ ‏(‏خَيْرٌ لَكُمْ‏)‏ مِنْ بَخْسِكُمْ إِيَّاهُمْ ذَلِكَ، وَظُلْمِكُمُوهُمْ فِيهِ‏.‏ وَقَوْلُهُ ‏(‏وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا‏)‏ يَقُولُ‏:‏ وَأَحْسَنُ مَرْدُودًا عَلَيْكُمْ وَأَوْلَى إِلَيْهِ فِيهِ فِعْلُكُمْ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَرْضَى بِذَلِكَ عَلَيْكُمْ، فَيُحْسِنُ لَكُمْ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا‏}‏ أَيْ خَيْرٌ ثَوَابًا وَعَاقِبَةً‏.‏

وَأَخْبَرَنَا «أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ‏:‏ يَا مَعْشَرَ الْمَوَالِي، إِنَّكُمْ وَلِيتُمْ أَمْرَيْنِ بِهِمَا هَلَكَ النَّاسُ قَبْلَكُمْ‏:‏ هَذَا الْمِكْيَالُ، وَهَذَا الْمِيزَانُ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ‏:‏ “ لَا يَقْدِرُ رَجُلٌ عَلَى حَرَامٍ ثُمَّ يَدَعُهُ، لَيْسَ بِهِ إِلَّا مَخَافَةُ اللَّهِ، إِلَّا أَبْدَلَهُ اللَّهُ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ذَلِكَ “»‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا‏}‏ قَالَ‏:‏ عَاقِبَةً وَثَوَابًا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا‏}‏‏.‏

اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ‏{‏وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ وَلَا تَقُلْ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ ‏{‏وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ لَا تَقُلْ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا‏}‏ لَا تَقُلْ رَأَيْتُ وَلَمْ تَرَ وَسَمِعْتُ وَلَمْ تَسْمَعْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَائِلُكَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ قَالَ‏:‏ لَا تَقُلْ رَأَيْتُ وَلَمْ تَرَ، وَسَمِعْتُ وَلَمْ تَسْمَعْ، وَعَلِمْتُ وَلَمْ تَعْلَمْ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ الْأَزْرَقِ، عَنْ أَبَى عُمَرَ الْبَزَّارَ، عَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ‏:‏ شَهَادَةُ الزُّورِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ مَعْنَاهُ‏:‏ وَلَا تَرْمِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ ثَنْيَ عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ ‏{‏وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ لَا تَرْمِ أَحَدًا بِمَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏(‏وَلَا تَقْفُ‏)‏ وَلَا تَرْمِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

وَهَذَانَ التَّأْوِيلَانِ مُتَقَارِبَا الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْقَوْلَ بِمَا لَا يُعْلَمُهُ الْقَائِلُ يَدْخُلُ فِيهِ شَهَادَةُ الزُّورِ، وَرَمْيُ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَادِّعَاءُ سَمَاعِ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ، وَرُؤْيَةِ مَا لَمْ يَرَهُ‏.‏ وَأَصِلُ الْقَفْوِ‏:‏ الْعِضَهُ وَالْبَهْتُ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «نَحْنُ بَنِ‏]‏ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةٍ لَا نَقْفُو أُمَّنَا وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا» “، وَكَانَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ يُنْشِدُ فِي ذَلِكَ بَيْتًا‏:‏

وَمِثْـلُ الـدُّمَى شُـمُّ الْعَـرَانِينِ سَاكِنٌ *** بِهِـنَّ الْحَيـاءُ لَا يُشِـعْنَ التَّقَافِّيَـا

يَعْنِي بِالتَّقَافِي‏:‏ التَّقَاذُفَ‏.‏ وَيَزْعُمُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ ‏(‏لَا تَقْفُ‏)‏ لَا تَتْبَعُ مَا لَا تَعْلَمُ، وَلَا يَعْنِيكَ‏.‏ وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، يَزْعُمُ أَنْ أَصَّلَهُ الْقِيَافَةِ، وَهِيَ اتِّبَاعُ الْأَثَرِ، وَإِذْ كَانَ كَمَا ذَكَّرُوا وَجَبَّ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ ‏(‏وَلَا تَقُفْ‏)‏ بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ الْفَاءِ، مِثْلُ‏:‏ وَلَا تَقُلْ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَالْعَرَبُ تَقُولُ‏:‏ قَفَوْتُ أَثَرَهُ، وقُفْتُ أَثَرَهُ، فَتُقَدِّمُ أَحْيَانًا الْوَاوَ عَلَى الْفَاءِ وَتُؤَخِّرُهَا أَحْيَانًا بَعْدَهَا، كَمَا قِيلَ‏:‏ قَاعَ الْجُمَلُ النَّاقَةَ‏:‏ إِذَا رَكِبَهَا وَقَعَا وَعَاثَ وَعَثَى؛ وَأَنْشَدَ سَمَاعًا مِنَ الْعَرَبِ‏:‏

ولَـوْ أَنِّـي رَمَيْتُـكَ مِـنْ قَـرِيبٍ *** لَعَـاقَكَ مِـنْ دُعـاءِ الـذِّئْبِ عَـاقِ

يَعْنِي‏:‏ عَائِقِ، وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ‏.‏

وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ لَا تَقُلْ لِلنَّاسِ وَفِيهِمْ مَا لَا عِلْمَ لَكَ بِهِ، فَتَرْمِيهِمْ بِالْبَاطِلِ، وَتَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ الْحَقِّ، فَذَلِكَ هُوَ الْقَفْوُ‏.‏

وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى الْأَقْوَالِ فِيهِ بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْغَالِبُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ الْقَفْو فِيهِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ ‏{‏إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا‏}‏ فَإِنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ سَائِلٌ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ عَمَّا قَالَ صَاحِبُهَا، مِنْ أَنَّهُ سَمِعَ أَوْ أَبْصَرَ أَوْ عَلِمَ، تَشْهَدُ عَلَيْهِ جَوَارِحُهُ عِنْدَ ذَلِكَ بِالْحَقِّ، وَقَالَ أُولَئِكَ، وَلَمْ يَقُلْ تِلْكَ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

ذُمَّ الْمَنَـازِلَ بَعْـدَ مَنزلَـةِ اللَّـوَى *** وَالْعَيْشَ بَعْـدَ أُولَئِـكَ الْأَيَّـامِ

وَإِنَّمَا قِيلَ‏:‏ أُولَئِكَ، لِأَنَّ أُولَئِكَ وَهَؤُلَاءِ لِلْجَمْعِ الْقَلِيلِ الَّذِي يَقَعُ لِلتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ، وَهَذِهِ وَتِلْكَ لِلْجَمْعِ الْكَثِيرِ، فَالتَّذْكِيرُ لِلْقَلِيلِ مِنْ بَابٍِ إِنْ كَانَ التَّذْكِيرُ فِي الْأَسْمَاءِ قَبْلَ التَّأْنِيثِ لَكَ التَّذْكِيرُ لِلْجَمْعِ الْأَوَّلِ، وَالتَّأْنِيثُ لِلْجَمْعِ الثَّانِي، وَهُوَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَجْعَلُ الْجَمْعَ عَلَى مِثَالِ الْأَسْمَاءِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 38‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مُخْتَالًا مُسْتَكْبِرًا ‏{‏إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ إِنَّكَ لَنْ تَقْطَعَ الْأَرْضَ بِاخْتِيَالِكَ، كَمَا قَالَ رُؤْبَةُ‏:‏

وَقَاتِمِ الْأَعْمَاقِ خَاوِي الْمُخْتَرَقِ ***

يَعْنِي بِالْمُخْتَرِقِ‏:‏ الْمقطعَ ‏{‏وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا‏}‏ بِفَخْرِكَ وَكِبْرِكَ، وَإِنَّمَا هَذَا نَهْي مِنَ اللَّهِ عِبَادَهُ عَنِ الْكِبَرِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ، وَتَقَدُّمٌ مِنْهُ إِلَيْهِمْ فِيهِ مُعَرِّفُهُمْ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَنَالُونَ بِكِبْرِهِمْ وَفَخَارِهِمْ شَيْئًا يَقْصُرُ عَنْهُ غَيْرُهُمْ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا‏}‏ يَعْنِي بِكِبْرِكَ وَمَرَحِكَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا‏}‏ قَالَ‏:‏ لَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ فَخْرًا وَكِبْرًا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَبْلُغُ بِكَ الْجِبَالَ، وَلَا تَخْرِقُ الْأَرْضَ بِكِبْرِكَ وَفَخْرِكَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ‏{‏وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ‏}‏ قَالَ‏:‏ لَا تَفْخَرُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ لَا تَمْشِ مَرَحًا، وَلَمْ يَقُلْ مَرِحًا، لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالْكَلَامِ‏:‏ لَا تَكُنْ مَرِحًا، فَيَجْعَلُهُ مِنْ نَعْتِ الْمَاشِي، وَإِنَّمَا أُرِيدَ لَا تَمْرَحُ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا، فَفَسَّرَ الْمَعْنَى الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ وَلَا تَمْشِ، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ‏:‏

يُعْجِبُـهُ السَّـخُونُ والْعَصِيـدُ *** والتَّمْـرُ حبًّـا مَـا لَـهُ مَزِيـدُ

فَقَالَ‏:‏ حَبًّا، لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ‏:‏ يُعْجِبُهُ، مَعْنَى يُحِبُّ، فَأَخْرَجَ قَوْلُهُ‏:‏ حَبًّا، مِنْ مَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا‏}‏ فَإِنَّ الْقُرَّاءَ اخْتَلَفَتْ فِيهِ، فَقَرَأَهُ بَعْضُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَعَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ ‏{‏كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا‏}‏ عَلَى الْإِضَافَةِ بِمَعْنَى‏:‏ كُلُّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي عَدَدْنَا مِنْ مُبْتَدَأِ قَوْلِنَا ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ إِلَى قَوْلِنَا ‏{‏وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا‏}‏ ‏{‏كَانَ سَيِّئُهُ‏}‏ يَقُولُ‏:‏

سَيِّءُ مَا عَدَدْنَا عَلَيْكَ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا‏.‏

وَقَالَ قَارِئُو هَذِهِ الْقِرَاءَةَ‏:‏ إِنَّمَا قِيلَ ‏{‏كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ‏}‏ بِالْإِضَافَةِ، لِأَنَّ فِيمَا عَدَدْنَا مِنْ قَوْلِهِ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ‏}‏ أُمُورًا، هِيَ أَمْرٌ بِالْجَمِيلِ، كَقَوْلِهِ ‏{‏وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا‏}‏ وَقَوْلِهِ ‏{‏وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ‏}‏ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، قَالُوا‏:‏ فَلَيْسَ كُلُّ مَا فِيهِ نَهْيًا عَنْ سَيِّئَةٍ، بَلْ فِيهِ نَهْيٌ عَنْ سَيِّئَةٍ، وَأَمْرٌ بِحَسَنَاتٍ، فَلِذَلِكَ قَرَأْنَا ‏(‏سَيِّئُهُ‏)‏، وَقَرَأَ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ ‏(‏كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئَةً‏)‏ وَقَالُوا‏:‏ إِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ‏:‏ كُلُّ مَا عَدَدْنَا مِنْ قَوْلِنَا ‏{‏وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ‏}‏ وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ مَا قَبْلَ ذَلِكَ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَكُلُّ مَا عَدَدْنَا مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ سَيِّئَةٌ لَا حَسَنَةَ فِيهِ، فَالصَّوَابُ قِرَاءَتُهُ بِالتَّنْوِينِ‏.‏ وَمَنْ قَرَأَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَكُونَ الْمَكْرُوهُ مُقَدَّمًا عَلَى السَّيِّئَةِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْكَلَامِ عِنْدَهُ‏:‏ كُلَّ ذَلِكَ كَانَ مَكْرُوهًا سَيِّئَةً؛ لِأَنَّهُ إِنْ جَعَلَ قَوْلَهُ‏:‏ مَكْرُوهًا نَعُدُّ السَّيِّئَةَ مِنْ نَعْتِ السَّيِّئَةِ، لَزِمَهُ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ‏:‏ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئَةً عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهَةً، وَذَلِكَ خِلَافُ مَا فِي مَصَاحِفَ الْمُسْلِمِينَ‏.‏

وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ عِنْدِي فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ‏{‏كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ‏}‏ عَلَى إِضَافَةِ السَّيِّئِ إِلَى الْهَاءِ، بِمَعْنَى‏:‏ كُلُّ ذَلِكَ الَّذِي عَدَدْنَا مِنْ ‏(‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ‏)‏ ‏(‏كَانَ سَيِّئُهُ‏)‏ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ أُمُورًا مَنْهِيًّا عَنْهَا، وَأُمُورًا مَأْمُورًا بِهَا، وَابْتِدَاءُ الْوَصِيَّةِ وَالْعَهْدُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ دُونَ قَوْلِهِ ‏{‏وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ‏}‏ إِنَّمَا هُوَ عَطْفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ‏}‏ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَقِرَاءَتُهُ بِإِضَافَةِ السَّيْءِ إِلَى الْهَاءِ أَوْلَى وَأَحَقُّ مِنْ قِرَاءَتِهِ “ سَيِّئَةً “ بِالتَّنْوِينِ، بِمَعْنَى السَّيِّئَةِ الْوَاحِدَةِ‏.‏

فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنْ‏:‏ كُلُّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا لَكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي عَدَدْنَاهَا عَلَيْكَ كَانَ سَيِّئَةً مَكْرُوهًا عِنْدَ رَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ، يَكْرَهُهُ وَيَنْهَى عَنْهُ وَلَا يَرْضَاهُ، فَاتَّقِ مُوَاقَعَتَهُ وَالْعَمَلَ بِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِوَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ هَذَا الَّذِي بَيَّنَا لَكَ يَا مُحَمَّدُ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ الَّتِي أَمَرْنَاكَ بِجَمِيلِهَا، وَنَهَيْنَاكَ عَنْ قَبِيحِهَا ‏{‏مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي أَوْحَيْنَاهَا إِلَيْكَ فِي كِتَابِنَا هَذَا‏.‏

كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْقُرْآنُ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَا مَعْنَى الْحِكْمَةِ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

‏{‏وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ شَرِيكًا فِي عِبَادَتِكَ، فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا تَلُومُكَ نَفْسُكَ وَعَارِفُوكَ مِنَ النَّاسِ ‏(‏مَدْحُورًا‏)‏ يَقُولُ‏:‏

مُبْعَدًا مُقْصَيًا فِي النَّارِ، وَلَكِنَّ أَخْلَصَ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، فَتَنْجُو مِنْ عَذَابِهِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي قَوْلِهِ ‏{‏مَلُومًا مَدْحُورًا‏}‏ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏مَلُومًا مَدْحُورًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ مَطْرُودًا‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏مَلُومًا مَدْحُورًا‏}‏ قَالَ‏:‏ مَلُومًا فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، مَدْحُورًا فِي النَّارِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلَّذِينِ قَالُوا مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ‏:‏ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ ‏{‏أَفَأَصْفَاكُمْ‏}‏ أَيُّهَا النَّاسُ ‏{‏رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ أَفَخَصَّكُمْ رَبُّكُمْ بِالذُّكُورِ مِنْ الْأَوْلَادِ ‏{‏وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا‏}‏ وَأَنْتُمْ لَا تَرْضَوْنَهُنَّ لِأَنْفُسِكُمْ، بَلْ تَئِدُونَهُنَّ، وَتَقْتُلُونَهُنَّ، فَجَعَلْتُمْ لِلَّهِ مَا لَا تَرْضَوْنَهُ لِأَنْفُسِكُمْ ‏{‏إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا مِنَ الْفِرْيَةِ عَلَى اللَّهِ مَا ذَكَرْنَا‏:‏ إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ لَتَقُولُونَ بِقَيْلِكُمْ‏:‏ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، قَوْلًا عَظِيمًا، وَتَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ فِرْيَةً مِنْكُمْ‏.‏

وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا‏}‏ قَالَ‏:‏ قَالَتْ الْيَهُودُ‏:‏ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ‏.‏